فصل: تفسير الآية رقم (267):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (265):

{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)}
قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} {ابْتِغاءَ} مفعول من أجله. {وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} عطف عليه.
وقال مكي في المشكل: كلاهما مفعول من أجله. قال ابن عطية: وهو مردود، ولا يصح في: {تَثْبِيتاً} أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت. و{ابْتِغاءَ} نصب على المصدر في موضع الحال، وكان يتوجه فيه النصب على المفعول من أجله، لكن النصب على المصدر هو الصواب من جهة عطف المصدر الذي هو {تَثْبِيتاً} عليه. ولما ذكر الله تعالى صفة صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم، ونهى المؤمنين عن مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما، عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين تزكو صدقاتهم إذ كانت على وفق الشرع ووجهه. و{ابْتِغاءَ} معناه طلب. و{مَرْضاتِ} مصدر من رضى يرضى. {وَتَثْبِيتاً} معناه أنهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم، قال مجاهد والحسن. قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه وإن خالطه شك أمسك.
وقيل: معناه تصديقا ويقينا، قاله ابن عباس.
وقال ابن عباس أيضا وقتادة: معناه واحتسابا من أنفسهم.
وقال الشعبي والسدي وقتادة أيضا وابن زيد وأبو صالح وغيرهم: {وَتَثْبِيتاً} معناه وتيقنا أي أن نفوسهم لها بصائر فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتا. وهذه الأقوال الثلاث أصوب من قول الحسن ومجاهد، لأن المعنى الذي ذهبا إليه إنما عبارته {وَتَثْبِيتاً} مصدر على غير المصدر. قال ابن عطية: وهذا لا يسوغ إلا مع ذكر المصدر والإفصاح بالفعل المتقدم، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً}، {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}. وأما إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتى بمصدر في غير معناه ثم تقول: أحمله على معنى كذا وكذا، لفعل لم يتقدم له ذكر. قال ابن عطية: هذا مهيع كلام العرب فيما علمته.
وقال النحاس:
لو كان كما قال مجاهد لكان وتثبتا من تثبت ككرمت تكرما، وقول قتادة: احتسابا، لا يعرف إلا أن يراد به أن أنفسهم تثبتهم محتسبة، وهذا بعيد. وقول الشعبي حسن، أي تثبيتا من أنفسهم لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله عز وجل، يقال: ثبت فلانا في هذا الامر، أي صححت عزمه، وقويت فيه رأيه، أثبته تثبيتا، أي أنفسهم موقنة بوعد الله على تثبيتهم في ذلك.
وقيل: {وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي يقرون بأن الله تعالى يثبت عليها، أي وتثبيتا من أنفسهم لثوابها، بخلاف المنافق الذي لا يحتسب الثواب.
قوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} الجنة البستان، وهى قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها، فهي مأخوذة من لفظ الجن والجنين لاستتارهم. وقد تقدم. والربوة: المكان المرتفع ارتفاعا يسيرا، معه في الأغلب كثافة تراب، وما كان كذلك فنباته أحسن، ولذلك خص الربوة بالذكر. قال ابن عطية: ورياض الحزن ليست من هذا كما زعم الطبري، بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد، لأنها خير من رياض تهامة، ونبات نجد أعطر، ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال لها حزن. وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية: «زوجي كليل تهامة».
وقال السدى: {بِرَبْوَةٍ} أي برباوة، وهو ما انخفض من الأرض. قال ابن عطية: وهذه عبارة قلقة، ولفظ الربوة هو مأخوذ من ربا يربو إذا زاد.
قلت: عبارة السدى ليست بشيء، لأن بناء رب ومعناه الزيادة في كلام العرب، ومنه الربو للنفس العالي. ربا يربو إذا أخذه الربو. وربا الفرس إذا أخذه الربو من عدو أو فزع.
وقال الفراء في قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً} أي زائدة، كقولك: أربيت إذا أخذت أكثر مما أعطيت. وربوت في بنى فلان وربيت أي نشأت فيهم.
وقال الخليل: الربوة أرض مرتفعة طيبة وخص الله تعالى بالذكر التي لا يجرى فيها ماء من حيث العرف في بلاد العرب، فمثل لهم ما يحسونه ويدركونه.
وقال ابن عباس: الربوة المكان المرتفع الذي لا تجرى فيه الأنهار، لأن قوله تعالى: {أَصابَها وابِلٌ} إلى آخر الآية يدل على أنها ليس فيها ماء جار، ولم يرد جنس التي تجرى فيها الأنهار، لأن الله تعالى قد ذكر ربوة ذات قرار ومعين. والمعروف من كلام العرب أن الربوة ما ارتفع عما جاوره سواء جرى فيها ماء أو لم يجر. وفيها خمس لغات ربوة بضم الراء، وبها قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ونافع وأبو عمرو. و{بِرَبْوَةٍ} بفتح الراء، وبها قرأ عاصم وابن عامر والحسن. {وربوة} بكسر الراء، وبها قرأ ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي. و{رباوة} بالفتح، وبها قرأ أبو جعفر وأبو عبد الرحمن، وقال الشاعر:
من منزلي في روضة برباوة ** بين النخيل إلى بقيع الغرقد

و{رباوة} بالكسر، وبها قرأ الأشهب العقيلي. قال الفراء: ويقال برباوة وبرباوة، وكله من الرابية، وفعله ربا يربو.
قوله تعالى: {أَصابَها} يعني الربوة {وابِلٌ} أي مطر شديد، قال الشاعر:
ما روضة من رياض الحزن معشبة ** خضراء جاد عليها وابل هطل

{فَآتَتْ} أي أعطت. {أُكُلَها} بضم الهمزة: الثمر الذي يؤكل، ومنه قوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ}. والشيء المأكول من كل شيء يقال له أكل. والاكلة: اللقمة، ومنه الحديث: «فإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين» يعني لقمة أو لقمتين، خرجه مسلم. وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص، كسرج الفرس وباب الدار. وإلا فليس الثمر مما تأكله الجنة. وقرأ نافع، وابن كثير وأبو عمرو {أكلها} بضم الهمزة وسكون الكاف، وكذلك كل مضاف إلى مؤنث، وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أكله أو كان غير مضاف إلى شيء مثل: {أُكُلٍ خَمْطٍ} فثقل أبو عمرو ذلك وخففاه. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي في جميع ما ذكرناه بالتثقيل. ويقال: أكل واكل بمعنى. {ضِعْفَيْنِ} أي أعطت ضعفى ثمر غيرها من الأرضين.
وقال بعض، أهل العلم: حملت مرتين في السنة، والأول أكثر، أي أخرجت من الزرع ما يخرج غيرها في سنتين.
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ} تأكيد منه تعالى لمدح هذه الربوة بأنها إن لم يصبها وابل فإن الطل يكفيها ومنوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين، وذلك لكرم الأرض وطيبها. قال المبرد وغيره: تقديره فطل يكفيها.
وقال الزجاج: فالذي يصيبها طل. والطل: المطر الضعيف المستدق من القطر الخفيف، قاله ابن عباس وغيره، وهو مشهور اللغة.
وقال قوم منهم مجاهد: الطل: الندى. قال ابن عطية: وهو تجوز وتشبيه. قال النحاس: وحكى أهل اللغة وبلت وأوبلت، وطلت وأطلت. وفى الصحاح: الطل أضعف المطر والجمع الطلال، تقول منه: طلت الأرض وأطلها الندى فهي مطلولة. قال الماوردي: وزرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعا، وفية- وإن قل- تماسك ونفع. قال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير، ومعناه كمثل جنة بربوة أصابها وابل فإن لم يصبها وابل فطل فآتت أكلها ضعفين. يعني اخضرت أوراق البستان وخرجت ثمرتها ضعفين.
قلت: التأويل الأول أصوب ولا حاجة إلى التقديم والتأخير. فشبه تعالى نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربى الله صدقاتهم كتربية الفلو والفصيل بنمو نبات الجنة بالربوة الموصوفة، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقى صلدا. وخرج مسلم وغيره عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون مثل الجبل أو أعظم» خرجه الموطأ أيضا.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وعد ووعيد. وقرأ الزهري {يعملون} بالياء كأنه يريد به الناس أجمع، أو يريد المنفقين فقط، فهو وعد محض.

.تفسير الآية رقم (266):

{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)}
قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ} الآية. حكى الطبري عن السدى أن هذه الآية مثل آخر لنفقة الرياء، ورجح هو هذا القول. قلت وروى عن ابن عباس أيضا قال: هذا مثل ضربه الله للمرائين بالأعمال يبطلها يوم القيامة أحوج ما كان إليها، كمثل رجل كانت له جنة وله أطفال لا ينفعونه فكبر وأصاب الجنة إعصار أي ريح عاصف فيه نار فاحترقت ففقدها أحوج ما كان إليها.
وحكى عن ابن زيد أنه قرأ قول الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى} الآية، قال: ثم ضرب في ذلك مثلا فقال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} الآية. قال ابن عطية: وهذا أبين من الذي رجح الطبري، وليست هذه الآية بمثل آخر لنفقة الرياء، هذا هو مقتضى سياق الكلام. وأما بالمعنى في غير هذا السياق فتشبه حال كل منافق أو كافر عمل عملا وهو يحسب أنه يحسن صنعا فلما جاء إلى وقت الحاجة لم يجد شيئا.
قلت: قد روى عن ابن عباس أنها مثل لمن عمل لغير الله من منافق وكافر على ما يأتي، إلا أن الذي ثبت في البخاري عنه خلاف هذا. خرج البخاري عن عبيد بن عمير قال قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فيم ترون هذه الآية نزلت {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ}؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فغضب عمر وقال: قولوا: نعلم أو لا تعلم! فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال: يا بن أخى قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل رجل غنى يعمل بطاعة الله ثم الله عز وجل له الشيطان فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله. في رواية: فإذا فنى عمره واقترب أجله ختم ذلك بعمل من أعمال الشقاء، فرضي ذلك عمر.
وروى ابن أبى مليكة أن عمر تلا هذه الآية. وقال: هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء. قال ابن عطية: فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها، وبنحو ذلك قال مجاهد وقتادة والربيع وغيرهم. وخص النخيل والأعناب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر. وقرأ الحسن {جنات} بالجمع. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} تقدم ذكره. {لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ} يريد ليس شيء من الثمار إلا وهو فيها نابت.
قوله تعالى: {وَأَصابَهُ الْكِبَرُ} عطف ماضيا على مستقبل وهو {تَكُونَ} وقيل: {يَوَدُّ} فقيل: التقدير وقد أصابه الكبر. وقيل إنه محمول على المعنى، لأن المعنى أيود أحدكم أن لو كانت له جنة.
وقيل: الواو واو الحال، وكذا في قوله تعالى: {وَلَهُ}.
قوله تعالى: {فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ} قال الحسن: {إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ} ريح فيها برد شديد. الزجاج: الاعصار في اللغة الريح الشديدة التي تهب من الأرض إلى السماء كالعمود، وهى التي يقال لها: الزوبعة. قال الجوهري: الزوبعة رئيس من رؤساء الجن، ومنه سمى الاعصار زوبعة. ويقال: أم زوبعة، وهى ريح تثير الغبار وترتفع إلى السماء كأنها عمود.
وقيل: الاعصار ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق. المهدوي: قيل لها إعصار لأنها تلتف كالثوب إذا عصر. ابن عطية: وهذا ضعيف.
قلت: بل هو صحيح، لأنه المشاهد المحسوس، فإنه يصعد عمودا ملتفا.
وقيل: إنما قيل للريح إعصار، لأنه يعصر السحاب، والسحاب معصرات إما لأنها حوامل فهي كالمعصر من النساء. وإما لأنها تنعصر بالرياح.
وحكى ابن سيده: إن المعصرات فسرها قوم بالرياح لا بالسحاب. ابن زيد: الاعصار ريح عاصف وسموم شديدة، وكذلك قال السدى: الاعصار الريح والنار السموم. ابن عباس: ريح فيها سموم شديدة. قال ابن عطية: ويكون ذلك في شدة الحر ويكون في شدة البرد، وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها، كما تضمن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم» و«إن النار اشتكت إلى ربها» الحديث.
وروى عن ابن عباس وغيره: إن هذا مثل ضربه الله تعالى للكافرين والمنافقين، كهيئة رجل غرس بستانا فأكثر فيه من الثمر فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء- يريد صبيانا بنات وغلمانا- فكانت معيشته ومعيشة ذريته من ذلك البستان، فأرسل الله على بستانه ريحا فيها نار فأحرقته، ولم يكن عنده قوة فيغرسه ثانية، ولم يكن عند بنيه خير فيعودون على أبيهم. وكذلك الكافر والمنافق إذا ورد إلى الله تعالى يوم القيامة ليست له كرة يبعث فيرد ثانية، كما ليست عند هذا قوة فيغرس بستانه ثانية، ولم يكن عنده من افتقر إليه عند كبر سنه وضعف ذريته غنى عنه. {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} يريد كي ترجعوا إلى عظمتي وربوبيتي ولا تتخذوا من دوني أولياء.
وقال ابن عباس أيضا: تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها.

.تفسير الآية رقم (267):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)}
فيه إحدى عشر مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا} هذا خطاب لجميع أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واختلف العلماء في المعنى المراد بالإنفاق هنا، فقال علي بن أبى طالب وعبيدة السلماني وابن سيرين: هي الزكاة المفروضة، نهى الناس عن إنفاق الرديء فيها بدل الجيد. قال ابن عطية: والظاهر من قول البراء بن عازب والحسن وقتادة أن الآية في التطوع، ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بمختار جيد. والآية تعم الوجهين، لكن صاحب الزكاة تعلق بأنها مأمور بها والامر على الوجوب، وبأنه نهى عن الرديء وذلك مخصوص بالفرض، وأما التطوع فكما للمرء أن يتطوع بالقليل فكذلك له أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم خير من تمرة. تمسك أصحاب الندب بأن لفظة افعل صالح للندب صلاحيته للفرض، والرديء منهى عنه في النقل كما هو منهى عنه في الفرض، والله أحق من اختير له.
وروى البراء أن رجلا علق قنو حشف، فرآه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «بئسما علق» فنزلت الآية، خرجه الترمذي وسيأتي بكماله. والامر على هذا القول على الندب، ندبوا إلى ألا يتطوعوا إلا بجيد مختار. وجمهور المتأولين قالوا: معنى: {مِنْ طَيِّباتِ} من جيد ومختار {ما كَسَبْتُمْ}.
وقال ابن زيد: من حلال ما كسبتم.
الثانية الكسب يكون بتعب بدن وهى الإجارة وسيأتي حكمها، أو مقاولة في تجارة وهو البيع وسيأتي بيانه. والميراث داخل في هذا، لأن غير الوارث قد كسبه. قال سهل بن عبد الله: وسيل ابن المبارك عن الرجل يريد أن يكتسب وينوي باكتسابه أن يصل به الرحم وأن يجاهد ويعمل الخيرات ويدخل في آفات الكسب لهذا الشأن. قال: إن كان معه قوام من العيش بمقدار ما يكف نفسه عن الناس فترك هذا أفضل، لأنه إذا طلب حلالا وأنفق في حلال سئل عنه وعن وكسبه وعن إنفاقه، وترك ذلك زهد فإن الزهد في ترك الحلال.
الثالثة: قال ابن خويز منداد: ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أولادكم من طيب أكسابكم فكلوا من أموال أولادكم هنيئا».
الرابعة: قوله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} يعني النبات والمعادن والركاز، وهذه أبواب ثلاثة تضمنتها هذه الآية. أما النبات فروى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها قالت: جرت السنة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة». والوسق ستون صاعا، فذلك ثلاثمائة صاع من الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وليس فيما أنبتت الأرض من الحضر زكاة. وقد أحتج قوم لابي حنيفة بقول الله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} وإن ذلك عموم في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره وفى سائر الأصناف، ورأوا ظاهر الامر الوجوب. وسيأتي بيان هذا في الأنعام مستوفى. وأما المعدن فروى الأئمة عن أبى هريرة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «العجماء جرحها جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفى الركاز الخمس». قال علماؤنا: لما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «وفى الركاز الخمس» دل على أن الحكم في المعادن غير الحكم في الركاز، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فصل بين المعادن والركاز بالواو الفاصلة، ولو كان الحكم فيهما سواء لقال والمعدن جبار وفيه الخمس، فلما قال: «وفى الركاز الخمس» علم أن حكم الركاز غير حكم المعدن فيما يؤخذ منه، والله أعلم. والركاز أصله في اللغة ما ارتكز بالأرض من الذهب والفضة والجواهر، وهو عند سائر الفقهاء كذلك، لأنهم يقولون في الندرة التي توجد في المعدن مرتكزة بالأرض لا تنال بعمل ولا بسعي ولا نصب، فيها الخمس، لأنها ركاز. وقد روى عن مالك أن الندرة في المعدن حكمها حكم ما يتكلف فيه العمل مما يستخرج من المعدن في الركاز، والأول تحصيل مذهبه وعليه فتوى جمهور الفقهاء.
وروى بعد الله بن سعيد بن أبى سعيد المقبري عن أبيه عن جده عن أبى هريرة قال: سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الركاز قال: «الذهب الذي خلق الله في الأرض يوم خلق السموات والأرض». عبد الله بن سعيد هذا متروك الحديث، ذكر ذلك ابن أبى حاتم. وقد روى من طريق أخرى عن أبى هريرة ولا يصح، ذكره الدارقطني. ودفن الجاهلية لأموالهم عند جماعة العلماء ركاز أيضا لا يختلفون فيه إذا كان دفنه قبل الإسلام من الأموال العادية، وأما ما كان من ضرب الإسلام فحكمه عندهم حكم اللقطة.
الخامسة: واختلفوا في حكم الركاز إذا وجد، فقال مالك: ما وجد من دفن الجاهلية في أرض العرب أوفى فيافي الأرض التي ملكها المسلمون بغير حرب فهو لواجده وفيه الخمس، وأما ما كان في أرض الإسلام فهو كاللقطة. قال: وما وجد من ذلك في أرض العنوة فهو للجماعة الذين افتتحوها دون واجده، وما وجد من ذلك في أرض الصلح فإنه لأهل تلك البلاد دون الناس، ولا شيء للواجد فيه إلا أن يكون من أهل الدار فهو له دونهم.
وقيل: بل هو لجملة أهل الصلح. قال إسماعيل: وإنما حكم للركاز بحكم الغنيمة لأنه مال كافر وجده مسلم فأنزل منزلة من قاتله واخذ ماله، فكان له أربعة أخماسه.
وقال ابن القاسم: كان مالك يقول في العروض والجواهر والحديد والرصاص ونحوه يوجد ركازا: إن فيه الخمس ثم رجع فقال: لا أرى فيه شيئا، ثم آخر ما فارقناه أن قال: فيه الخمس. وهو الصحيح لعموم الحديث وعليه جمهور الفقهاء.
وقال أبو حنيفة ومحمد في الركاز يوجد في الدار: إنه لصاحب الدار دون الواجد وفيه الخمس. وخالفه أبو يوسف فقال: إنه للواجد دون صاحب الدار، وهو قول الثوري: وإن وجد في الفلاة فهو للواجد في قولهم جميعا وفيه الخمس. ولا فرق عندهم بين أرض الصلح وأرض العنوة، وسواء عندهم أرض العرب وغيرها، وجائز عندهم لواجده أن يحتبس الخمس لنفسه إذا كان محتاجا وله أن يعطيه للمساكين. ومن أهل المدينة وأصحاب مالك من لا يفرق بين شيء من ذلك وقالوا: سواء وجد الركاز في أرض العنوة أو في أرض الصلح أو أرض العرب أو أرض الحرب إذا لم يكن ملكا لاحد ولم يدعه أحد فهو لواجده وفيه الخمس على عموم ظاهر الحديث، وهو قول الليث وعبد الله بن نافع والشافعي وأكثر أهل العلم.
السادسة: وأما ما يوجد من المعادن ويخرج منها فاختلف فيه، فقال مالك وأصحابه: لا شيء فيما يخرج من المعادن من ذهب أو فضة حتى يكون عشرين مثقالا ذهبا أو خمس أواق فضة، فإذا بلغتا هذا المقدار وجبت فيهما الزكاة، وما زاد فبحساب ذلك ما دام في المعدن نيل، فإن انقطع ثم جاء بعد ذلك نيل آخر فإنه تبتدأ فيه الزكاة مكانه. والركاز عندهم بمنزلة الزرع تؤخذ منه الزكاة في حينه ولا ينتظر به حولا. قال سحنون في رجل له معادن: إنه لا يضم ما في واحد منها إلى غيرها ولا يزكى إلا عن مائتي درهم أو عشرين دينارا في كل واحد.
وقال محمد بن مسلمة: يضم بعضها إلى بعض ويزكى الجميع كالزرع.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: المعدن كالركاز، فما وجد في المعدن من ذهب أو فضة بعد إخراج الخمس اعتبر كل واحد منهما، فمن حصل بيده ما تجب فيه الزكاة زكاه لتمام الحول إن أتى عليه حول وهو نصاب عنده، هذا إذا لم يكن عنده ذهب أو فضة وجبت فيه الزكاة. فإن كان عنده من ذلك ما تجب فيه الزكاة ضمه إلى ذلك وزكاه. وكذلك عندهم كل فائدة تضم في الحول إلى النصاب من جنسها وتزكى لحول الأصل، وهو قول الثوري. وذكر المزني عن الشافعي قال: وأما الذي أنا واقف فيه فما يخرج من المعادن. قال المزني: الأولى به على أصله أن يكون ما يخرج من المعدن فائدة يزكى بحوله بعد إخراجه.
وقال الليث بن سعد: ما يخرج من المعادن من الذهب والفضة فهو بمنزلة الفائدة يستأنف به حولا، وهو قول الشافعي فيما حصله المزني من مذهبه، وقال به داود وأصحابه إذا حال عليها الحول عند مالك صحيح الملك لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول» أخرجه الترمذي والدارقطني. واحتجوا أيضا بما رواه عبد الرحمن بن أنعم عن أبى سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى قوما من المؤلفة قلوبهم ذهيبة في تربتها، بعثها على رضي الله عنه من اليمن. قال الشافعي: والمؤلفة قلوبهم حقهم في الزكاة، فتبين بذلك أن المعادن سنتها سنة الزكاة. وحجة مالك حديث عن ربيعة بن أبى عبد الرحمن أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية وهى من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة. وهذا حديث منقطع الاسناد لا يحتج بمثله أهل الحديث، ولكنه عمل يعمل به عندهم في المدينة. ورواه الدراوردي عن ربيعة عن الحارث بن بلال المزني عن أبيه. ذكره البزار، ورواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية جلسيها وغوريها. وحيث يصلح للزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم، ذكره البزار أيضا، وكثير مجمع على ضعفه. هذا حكم ما أخرجته الأرض، وسيأتي في سورة النحل حكم ما أخرجه البحر إذ هو قسيم الأرض. ويأتي في الأنبياء معنى قوله عليه السلام: «العجماء جرحها جبار» كل في موضعه إن شاء الله تعالى.
السابعة: قوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} تيمموا معناه تقصدوا، وستأتي الشواهد من أشعار العرب في أن التيمم القصد في النساء إن شاء الله تعالى. ودلت الآية على أن المكاسب فيها طيب وخبيث.
وروى النسائي عن أبى أمامة بن سهل ابن حنيف في الآية التي قال الله تعالى فيها: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال: هو الجعرور ولون حبيق، فنهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤخذا في الصدقة.
وروى الدارقطني عن أبى أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصدقة فجاء رجل من هذا السحل بكبائس- قال سفيان: يعني الشيص- فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من جاء بهذا؟»! وكان لا يجئ أحد بشيء إلا نسب إلى الذي جاء به. فنزلت: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}. قال: ونهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الجعرور ولون الحبيق أن يؤخذا في الصدقة- قال الزهري: لونين من تمر المدينة- وأخرجه الترمذي من حديث البراء وصححه، وسيأتي.
وحكى الطبري والنحاس أن في قراءة عبد الله {ولا تأمموا} وهما لغتان. وقرأ مسلم بن جندب {ولا تيمموا} بضم التاء وكسر الميم. وقرأ ابن كثير {تيمموا} بتشديد التاء. وفى اللفظة لغات، منها أممت الشيء مخففة الميم الأولى وأممته بشدها، ويممته وتيممته.
وحكى أبو عمرو أن ابن مسعود قرأ {ولا تؤمموا} بهمزة بعد التاء المضمومة.
الثامنة: قوله تعالى: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} قال الجرجاني في كتاب نظم القرآن: قال فريق من الناس: إن الكلام تم في قوله تعالى: {الْخَبِيثَ} ثم ابتدأ خبرا آخر في وصف الخبيث فقال: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي تساهلتم، كأن هذا المعنى عتاب للناس وتقريع. والضمير في: {مِنْهُ} عائد على الخبيث وهو الدون والرديء. قال الجرجاني: وقال فريق آخر: الكلام متصل إلى قوله: {مِنْهُ}، فالضمير في: {مِنْهُ} عائد على {ما كَسَبْتُمْ} ويجيء {تُنْفِقُونَ} كأنه في موضع نصب على الحال، وهو كقولك: أنا أخرج أجاهد في سبيل الله.
التاسعة: قوله تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي لستم بآخذيه في ديونكم وحقوقكم من الناس إلا أن تتساهلوا في ذلك وتتركوا من حقوقكم، وتكرهونه ولا ترضونه. أي فلا تفعلوا مع الله مالا ترضونه لأنفسكم، قال معناه البراء بن عازب وابن عباس والضحاك.
وقال الحسن: معنى الآية: ولستم بآخذيه ولو وجدتموه في السوق يباع إلا أن يهضم لكم من ثمنه.
وروى نحوه عن على رضي الله عنه. قال ابن عطية: وهذان القولان يشبهان كون الآية في الزكاة الواجبة. قال ابن العربي: لو كانت في الفرض لما قال: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} لان الرديء والمعيب لا يجوز أخذه في الفرض بحال، لا مع تقدير الإغماض ولا مع عدمه، وإنما يؤخذ مع عدم إغماض في النقل.
وقال البراء بن عازب أيضا معناه: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} لو أهدى لكم {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي تستحي من المهدى فتقبل منه ما لا حاجة لك به ولا قدر له في نفسه. قال ابن عطية: وهذا يشبه كون الآية في التطوع.
وقال ابن زيد: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا في مكروهه.
العاشرة: قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} كذا قراءة الجمهور، من أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل فيه ورضى ببعض حقه وتجاوز، ومن ذلك قول الطرماح:
لم يفتنا بالوتر قوم وللذ ** ل أناس يرضون بالإغماض

وقد يحتمل أن يكون منتزعا إما من تغميض العين، لأن الذي يريد الصبر على مكروه يغمض عينيه- قال:
إلى كم وكم أشياء منك تريبني ** أغمض عنها لست عنها بذي عمى

وهذا كالاغضاء عند المكروه. وقد ذكر النقاش هذا المعنى في هذه الآية- وأشار إليه مكي- وإما من قول العرب: أغمض الرجل إذا أتى غامضا من الامر، كما تقول: أعمن أي أتى عمان، وأعرق أي أتى العراق، وأنجد وأغور أي أتى نجدا والغور الذي هو تهامة، أي فهو يطلب التأويل على أخذه. وقرأ الزهري بفتح التاء وكسر الميم مخففا، وعنه أيضا. {تغمضوا} بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم وشدها. فالأولى على معنى تهضموا سومها من البائع منكم فيحطكم. والثانية، وهى قراءة قتادة فيما ذكر النحاس، أي تأخذوا بنقصان.
وقال أبو عمرو الداني: معنى قراءتي الزهري حتى تأخذوا بنقصان.
وحكى مكي عن الحسن {إلا أن تغمضوا} مشددة الميم مفتوحة. وقرأ قتادة أيضا {تغمضوا} بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففا. قال أبو عمرو الداني: معناه إلا أن يغمض لكم، وحكاه النحاس عن قتادة نفسه.
وقال ابن جنى: معناها توجدوا قد غمضتم في الامر بتأولكم أو بتساهلكم وجريتم على غير السابق إلى النفوس. وهذا كما تقول: أحمدت الرجل وجدته محمودا، إلى غير ذلك من الأمثلة. قال ابن عطية: وقراءة الجمهور تخرج على التجاوز وعلى تغميض العين، لأن أغمض بمنزلة غمض. وعلى أنها بمعنى حتى تأتوا غامضا من التأويل والنظر في أخذ ذلك، إما لكونه حراما على قول ابن زيد، وإما لكونه مهدى أو مأخوذا في دين على قول غيره.
وقال المهدوي: ومن قرأ {تُغْمِضُوا} فالمعنى تغمضون أعين بصائركم عن أخذه. قال الجوهري: وغمضت عن فولان إذا تساهلت عليه في بيع أو شراء وأغمضت، وقال تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}. يقال: أغمض لي فيما بعتني، كأنك تريد الزيادة منه لرداءته والحط من ثمنه. و{أن} في موضع نصب، والتقدير إلا بأن.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} نبه سبحانه وتعالى على صفة الغنى، أي لا حاجة به إلى صدقاتكم، فمن تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بماله قدر وبال، فإنما يقدم لنفسه. و{حَمِيدٌ} معناه محمود في كل حال. وقد أتينا على معاني هذين الاسمين في الكتاب الأسنى والحمد لله. قال الزجاج في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}: أي لم يأمركم أن تصدقوا من عوز ولكنه بلا أخباركم فهو حميد على ذلك على جميع نعمه.